فصل: قال ابن عطية في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{يا أيُّها النّبِيُّ إِذا طلّقْتُمُ النِّساء فطلِّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ}
الطلاق على الجملة مكروه، لأنه تبديد شمل في الإسلام، وروى أبو موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تطلقوا النساء إلا من ريبة، فإن الله لا يحب الذواقين ولا الذواقات». وروى أنس أنه عليه السلام قال: «ما حلف بالطلاق ولا استحلف به إلا منافق». واختلف في ندائه النبي. ثم قوله تعالى بعد ذلك: {طلقتم}، فقال بعض النحويين حكاه الزهراوي، في ذلك خروج من مخاطبة أفراد إلى مخاطبة جماعة، وهذا موجود، وقال آخرون منهم في نداء النبي صلى الله عليه وسلم: أريدت أمته معه، فلذلك قال: {إذا طلقتم}، وقال آخرون منهم إن المعنى: {يا أيها النبي} قل لهم {إذا طلقتم}، وقال آخرون إنه من حيث يقول الرجل العظيم فعلنا وصنعنا خوطب النبي صلى الله عليه وسلم بـ: {طلقتم} إظهارا لتعظيمه، وهذا على نحو قوله تعالى في عبد الله بن أبي: {هم الذين يقولون} [المنافقون: 7] إذا كان قوله مما يقوله جماعة، فكذلك النبي في هذه ما يخاطب به فهو خطاب الجماعة.
قال القاضي أبو محمد: والذي يظهر لي في هذا أنهما خطابان مفترقان، خوطب النبي على معنى تنبيهه لسماع القول وتلقي الأمر ثم قيل له: {إذا طلقتم}، أي أنت وأمتك، فقوله: {إذا طلقتم}، ابتداء كلام لو ابتدأ السورة به، وطلاق النساء: حل عصمتهن وصورة ذلك وتنويعه مما لا يختص بالتفسير، وقوله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} أي لاستقبال عدتهن وقوامها وتقريبها عليهن، وقرأ عثمان وابن عباس وأبي بن كعب وجابر بن عبد الله ومجاهد وعلي بن الحسين وزيد بن علي وجعفر بن محمد: {فطلقوهن في قبل عدتهن}، وروي عن بعضهم وعن ابن عمر {لقبل طهرهن}، ومعنى هذه الآية، أن لا يطلق أحد امرأته إلا في طهر لم يمسها فيه، هذا على مذهب مالك وغيره ممن قال: بأن الأقراء الإطهار فيطلق عندهم المطلق في طهر لم يمس فيه وتعتد به المرأة، ثم تحيض حيضتين تعتد بالطهر الذي بينهما، ثم يقيم في الطهر الثالث معتدة به، فإذا رأت أول الحيضة الثالثة حلت، ومن قال: بأن الأقراء الحيض وهم العراقيون قال: {لعدتهن}، معناه أن تطلق طاهرا، فتستقبل ثلاث حيض كوامل، فإذا رأت الطهر بعد الثالثة حلت ويخف عند هؤلاء مس في طهر الطلاق أو لم يمس، وكذلك مالك يقول: إن طلق في طهر قد مس فيه معنى الطلاق، ولا يجوز طلاق الحائض، لأنها تطول العدة عليها، وقيل بل ذلك تعبد ولو علل بالتطويل لا ينبغي أن يجوز إذا رضيته، والأصل في ذلك حديث عبد الله بن عمر قال: طلقت امرأتي وهي حائض، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لعمر:
«مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم يطلقها إن شاء، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء». وروى حذيفة أنه عليه السلام قال: «طلقوا المرأة في قبل طهرها»، ثم أمره تعالى بإحصاء العدة لما يلحق ذلك من أحكام الرجعة والسكنى والميراث وغير ذلك، ثم أخبر تعالى بأنهن أحق بسكنى بيوتهن التي طلقن فيها، فنهى عن إخراجهن وعن خروجهن، وسنة ذلك أن لا تبيت المرأة المطلقة عن بيتها ولا تغيب عنه نهارا إلا في ضروة، ومما لا خطب له من جائز التصرف وذلك لحفظ النسب والتحرز بالنساء، فإن كان البيت ملكا للزوج أو بكراء منه فهذا حكمه، فإن كان لها فعليه الكراء، فإن كان قد أمتعته طول الزوجية ففي لزوم خروج العدة له قولان في المذهب اللزوم رعاية لانفصال مكارمة النكاح، والسقوط من أجل العدة من سبب النكاح، واختلف الناس في معنى قوله: {إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} فقال قتادة والحسن ومجاهد: ذلك الزنا فيخرجن للحد، وهذا قول الشعبي وزيد بن أسلم وحماد والليث، وقال ابن عباس: ذلك لنداء على الإحماء، فتخرج ويسقط حقها من السكنى وتلزم الإقامة في مسكن يتخذه حفظا للنسب. وفي مصحف أبي بن كعب {إلا أن يفحشن عليكم}، وقال ابن عباس أيضا الفاحشة جميع المعاصي، فمن سرقت أو قذفت أو زنت أو أربت في تجارة وغير ذلك فقد سقط حقها في السكنى، وقال السدي وابن عمر: الفاحشة الخروج عن البيت، خروج انتقال، فمتى فعلت ذلك، فقد سقط حقها في السكنى، وقال قتادة أيضا: المعنى {أن يأتين بفاحشة} في نشوز عن الزوج فيطلق بسبب ذلك، فلا يكون عليه سكنى. وقال بعض الناس الفاحشة متى وردت معرفة فهي الزنا، ومتى جاءت منكرة فهي المعاصي يراد بها سوء عشرة الزوج ومرة غير ذلك، وقرأ عاصم: {مبيّنة} بفتح الياء المشددة تقول: بان الأمر وبينته أنا على تضعيف التعدية، وقرأ الجمهور: {مبيِّنة} بكسر الياء، تقول بان الشيء وبين بمعنى واحد، إلا أن التضعيف للمبالغة، ومن ذلك قولهم قد بين الصبح لذي عينين وقوله تعالى: {وتلك حدود الله} إشارة إلى جميع أوامره في هذه الآية، وقوله تعالى: {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا}، قال قتادة وغيره: يريد به الرجعة، أي أحصوا العدة وامتثلوا هذه الأوامر المتفقة لنسائكم الحافظة لأنسابكم، وطلقوا على السنة تجدوا المخلص إن ندمتم فإنكم لا تدرون لعل الرجعة تكون بعد، والإحداث في هذه الآية بين التوجه عبارة عما يوجد من التراجع، وجوز قوم أن يكون المعنى {أمرا} من النسخ، وفي ذلك بعد، وقوله تعالى: {فإذا بلغن أجلهن} يريد به آخر القروء، و(الإمساك بالمعروف): هو حسن العشرة في الإنفاق وغير ذلك، و(المفارقة بالمعروف): هو أداء المهر والتمتيع ودفع جميع الحقوق والوفاء بالشروط وغير ذلك حسب نازلة، وقوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} يريد على الرجعة، وذلك شرط في صحة الرجعة، وللمرأة منع الزوج من نفسها حتى يشهد، وقال ابن عباس المراد على الرجعة، والطلاق، لأن الإشهاد يرفع من النوازل إشكالات كثيرة، وتقييد تاريخ الإشهاد من الإشهاد، وقال النخعي: العدل: من لم تظهر منه ريبة، وهذا قول الفقهاء، والعدل حقيقة الذي لا يخاف إلا الله، وقوله تعالى: {أقيموا الشهادة لله} أمر للشهود، وقوله تعالى: {ذلكم يوعظ به} إشارة إلى إقامة الشهادة، وذلك أن جميع فصول الأحكام والأمور فإنما تدور على إقامة الشهادة، وقوله تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب}.
قال علي بن أبي طالب وكثير من المتأولين نفي من معنى الطلاق، أي ومن لا يتعدى في الطلاق السنة إلى طلاق الثلاث وغير ذلك يجعل الله له مخرجا إن ندم بالرجعة المباحة ويرزقه ما يطعم أهله ويوسع عليه، ومن لا يتق الله فربما طلق وبت وندم، فلم يكن له مخرج وزال عليه رزق زوجته. وقد فسر ابن عباس نحو هذا فقال للمطلق ثلاثا: أنت لم تتق الله فبانت منك امرأتك ولا أرى لك مخرجا. وقال ابن عباس أيضا معنى: {يجعل له مخرجا} يخلصه من كرب الدنيا والآخرة، واختلف في ألفاظ رواية هذه القصة، قال ابن عباس للمطلق، لكن هذا هو المعنى، وقال بعض رواة الآثار: نزلت هذه الآية في عوف بن مالك الأشجعي وذلك أنه أسر ولده وقدر عليه رزقه، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بالتقوى، فقيل: لم يلبث أن تفلت ولده وأخذ قطيع غنم للقوم الذين أسروه، وجاء أباه، فسأل عوف رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتطيب له تلك الغنم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم» ونزلت الآية في ذلك. وقوله تعالى: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه}، الآيات كلها عظة لجميع الناس، والحسب: الكافي المرضي، وقال ابن مسعود هذه أكثر الآيات حضّا على التفويض، وروي أن رجلا قال لعمر: ولّني مما ولاك الله، فقال له عمر: أتقرأ القرآن؟ قال: لا. قال: فأنا لا أولي من لا يقرأ القرآن. فتعلم الرجل رجاء الولاية، فلما حفظ كثيرا من القرآن تخلف عن عمر فلقيه يوما فقال له عمر ما أبطا بك؟ قال له تعلمت القرآن، فأغناني الله تعالى عن عمر وعن بابه.
ثم قرأ هذه الآيات من هذه السورة. وقوله تعالى: {إن الله بالغ أمره} بيان وحض على التوكل، أي لابد من نفوذ أمر الله توكلت أيها المرء أو لم تتوكل قاله مسروق. فإن توكلت كفاك وتعجلت الراحة والبركة، وإن لم تتوكل وكلك إلى عجزك وتسخطك، وأمره في الوجهين نافذ، وقرأ داود بن هند ورويت عن أبي عمرو {بالغ أمرُه} برفع الأمر وحذف مفعول تقدير: بالغ أمره ما شاء، وقرأ جمهور السبعة: {بالغ أمره} بنصب الأمر وقرأ حفص والمفضل عن عاصم: {بالغُ أمرِه} على الإضافة وترك التنوين في: {بالغُ}، ورويت عن أبي عمرو، والأعمش، وهي قراءة طلحة بن مصرف، وقرأ جمهور الناس: {قدْرا} بسكون الدال، وقرأ بعض القراء: {قدرا} بفتح الدال وهذا كله حض على التوكل. اهـ.

.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{يا أيُّها النبي إِذا طلّقْتُمُ النساء} تخصيصُ النداءِ بهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ مع عُمومِ الخطابِ لأمتِهِ أيضا لتشريفه عليهِ الصلاةُ والسلامُ وإظهارِ جلالةِ منصبِهِ، وتحقيقِ أنّه المخاطبُ حقيقة، ودخولِهِم في الخطابِ بطريقِ استتباعِهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ إيّاهُم. وتغليبِهِ عليهِم لا لأنّ نداءهُ كندائِهِم، فإن ذلك الاعتبار لو كان في حيزِ الرعايةِ لكان الخطابُ هو الأحقّ بهِ لشمولِ حُكمهِ للكلِّ قطعا والمعْنى إذا أردتُم تطليقهنّ وعزمتُم عليهِ كما في قوله تعالى: {إِذا قُمتُم إِلى الصلاة} {فطلّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ} أي مستقبلاتٍ لها كقولك أتيتُهُ لليلةٍ خلتْ من شهرِ كذا فإن المرأة إذا طُلقتْ في طُهرٍ يعقبُهُ القُرْءُ الأولُ من أقرائها فقد طُلقتْ مستقبلة لعدتِها، والمرادُ أن يُطلّقن في طُهْرٍ لم يقعْ فيهِ جماعٌ ثم يُخلّين حتى تنقضي عدتُهنّ وهذا أحسنُ الطلاقِ وأدخلُهُ في السنةِ {وأحْصُواْ العدة} واضبِطُوها وأكملوها ثلاثة أقراء كوامل {واتقوا الله ربّكُمْ} في تطويلِ العدةِ عليهنّ والإضرارِ بهنّ. وفي وصفِهِ تعالى بربوبيتِهِ لهم تأكيدٌ للأمر ومبالغةٌ في إيجابِ الاتقاءِ {لا تُخْرِجُوهُنّ مِن بُيُوتِهِنّ} من مساكنِهِنّ عند الفراقِ إلى أنْ تنقضي عِدتُهُنّ، وإضافتُها إليهنّ وهي لأزواجهنّ لتأكيدِ النّهيِ ببيانِ كمالِ استحقاقهِنّ لسُكناها كأنها أملاكهُنّ {ولا يخْرُجْن} ولو بإذنٍ منكُم فإنّ الإذن بالخروجِ في حُكمِ الإخراجِ، وقيل المعْنى لا يخرجنّ باستبدادٍ منهنّ أما إذا اتفقا على الخروجِ جاز إذِ الحقُّ لا يعدوهُما {إِلاّ أن يأْتِين بِفاحِشةٍ مُّبيّنةٍ} استثناءٌ من الأولِ قيل هي الزنا فيخرجن لإقامة الحدِّ عليهنّ وقيل إلا أنْ يبذُون على الأزواجِ فيحلُّ حينئذٍ إخراجهُنّ، ويؤيدُهُ قراءة {إلا أنْ يفحُشْن عليكُم} أو من الثانِي للمبالغةِ في النّهيِ عن الخروجِ ببيانِ أنّ خروجها فاحشةٌ {وتِلْك} إشارةٌ إلى ما ذُكر من الأحكامِ وما في إسمِ الإشارةِ من معْنى البُعْدِ مع قُربِ العهدِ بالمشارِ إليهِ للإيذانِ بعلوِّ درجتِها وبعدِ منزلتِها {حُدُود الله} التي عيّنها لعباده {ومن يتعدّ حُدُود الله} أي حدودهُ المذكورة بأنْ أحلّ بشيءٍ منها على أنّ الإظهار في حيزِ الإضمارِ لتهويلِ أمرِ التعدِّي، والإشعارِ بعلةِ الحكمِ في قوله تعالى: {فقدْ ظلم نفْسهُ} أي أضرّ بها، وتفسيرُ الظلمِ بتعريضِها للعقابِ يأباهُ قوله تعالى: {لا تدْرِى لعلّ الله يُحْدِثُ بعْد ذلِك أمْرا} فإنه استئنافٌ مسوقٌ لتعليلِ مضمونِ الشرطيةِ، وقد قالوا إن الأمر الذي يحدثُهُ الله تعالى أنْ يقلب قلبهُ عمّا فعلهُ بالتعدِّي إلى خلافِهِ فلابد أن يكون الظلمُ عبارة عن ضررٍ دنيوي يلحقُهُ بسببِ تعدِّيهِ ولا يُمكنُ تدارُكُهُ أو عنْ مُطلقِ الضررِ الشاملِ للدنيويِّ والأُخرويِّ، ويخُصُّ التعليلُ بالدنيويِّ لكونِ احترازِ الناسِ منهُ أشدّ واهتمامِهِمْ بدفْعِهِ أقْوى. وقوله تعالى: {لا تدْرِى} خطابٌ للمتعدِّي بطريقِ الالتفاتِ لمزيدِ الاهتمامِ بالزجرِ عن التعدِّي، لا للنبيِّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ كما توهِّم، فالمعْنى ومن يتعدّ حدود الله فقدْ أضرّ بنفسِهِ فإنك لا تدْرِي أيُّها المتعدِّي عاقبة الأمرِ لعلّ الله يحدثُ في قلبك بعد ذلك الذي فعلت من التعدِّي أمرا يقتضِي خلاف ما فعلتهُ فيبدّل ببغضِها محبة، وبالإعراضِ عنها إقبالا إليها ويتسنّى تلافيهِ رجعة أو استئناف نكاحٍ.
{فإِذا بلغْن أجلهُنّ}
شارفن آخر عدتِهِنّ {فأمْسِكُوهُنّ} فراجعوهنّ {بِمعْرُوفٍ} بحسنِ معاشرةٍ وإنفاقٍ لائقٍ {أوْ فارِقُوهُنّ بِمعْرُوفٍ} بإيفاءِ الحقِّ واتقاءِ الضررِ بأنْ يراجعها ثم يُطلقها تطويلا للعدةِ {وأشْهِدُواْ ذوِى عدْلٍ مّنْكُمْ} عند الرجعةِ والفرقةِ قطعا للتنازعِ، وهذا أمرُ ندبٍ كما في قوله تعالى: {وأشْهِدُواْ إِذا تبايعْتُمْ} ويُروى عن الشافعي أنه للوجوبِ في الرّجعةِ {وأقِيمُواْ الشهادة لله} أيُّها الشهودُ عند الحاجةِ خالصا لوجِهِ تعالى: {ذلكم} إشارةٌ إلى الحثِّ على الإشهادِ والإقامةِ أو على جميعِ ما في الآيةِ {يُوعظُ بِهِ من كان يُؤْمِنُ بالله واليوم الأخر} إذْ هو المنتفعُ بهِ والمقصودُ تذكيرُهُ وقوله تعالى: {ومن يتّقِ الله} إلخ جملة اعتراضيةٌ مؤكدةٌ لما سبق منْ وجوبِ مراعاةِ حدودِ الله تعالى بالوعدِ على الاتقاءِ عن تعدِّيها كما أن ما تقدم من قوله تعالى: {ومن يتعدّ حُدُود الله فقدْ ظلم نفْسهُ} مؤكدٌ لهُ بالوعيدِ على تعدِّيها فالمعنى ومنْ يتق الله فطلق للسنةِ ولم يُضارّ المعتدة ولم يُخرجها من مسكنِها واحتاط في الإشهادِ وغيرِهِ من الأمورِ {يجْعل لّهُ مخْرجا} مما عسى يقعُ في شأنِ الأزواجِ من الغُمومِ والوقوعِ في المضايقِ ويفرجْ عنه ما يعتريهِ من الكُروبِ {ويرْزُقْهُ مِنْ حيْثُ لا يحْتسِبُ} أي من وجهٍ لا يخطرُ ببالِهِ ولا يحتسبُهُ ويجوزُ أن يكون كلاما جيء بهِ على نهجِ الاستطرادِ عند ذكرِ قوله تعالى: {ذلِكُمْ يُوعظُ بِهِ من كان يُؤْمِنُ بالله} إلى آخرِهِ فالمعْنى ومن يتقِ الله في كلِّ ما يأتي وما يذرُ يجعلْ لهُ مخرجا ومخلصا من غمومِ الدُّنيا والآخرةِ فيندرجُ فيهِ ما نحنُ فيهِ اندراجا أوليا. عن النبيِّ عليه الصلاةُ والسلامُ أنه قرأها فقال: «مخرجا من شبهاتِ الدُّنيا ومن غمراتِ الموتِ ومن شدائدِ يومِ القيامةِ» وقال عليهِ الصلاةُ والسلام: «إني لأعلمُ آية لو أخذ الناسُ بها لكفتْهُم» {ومن يتقِ الله} فما زال يقرؤها ويعيدُها. ورُوِي أن عوف بن مالكٍ الأشجعيّ أسر المشركون ابنهُ سالما فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أسر ابنِي وشكا إليهِ الفاقة. فقال عليهِ الصلاةُ والسلام: اتقِ الله وأكثِرْ قول لا حول ولا قوة إلا بالله العليِّ العظيمِ. ففعل فبينا هُو في بيتِهِ إذ قرع ابنُهُ الباب ومعهُ مائةٌ من الإبلِ غفل عنها العدوُّ فاستاقها فنزلتْ».
{ومن يتوكّلْ على الله فهُو حسْبُهُ} أيْ كافيهِ في جميعِ أمورِهِ {إِنّ الله بالغ أمْرِهِ} بالإضافةِ أي منفذُ أمرِهِ وقرئ بتنوينِ بالغُ ونصبِ أمرِهِ أيْ يبلغُ ما يريدُهُ لا يفوتُهُ مرادٌ ولا يُعجزُه مطلوبٌ، وقرئ برفعِ {أمرِهِ} على أنّه مبتدأٌ و{بالغٌ} خبرٌ مقدمٌ، والجملة خبرُ {إنّ} أو {بالغٌ} خبر {إنّ}، و{أمرُهُ} مرتفعٌ بهِ على الفاعليةِ أي نافذ أمرُهُ. وقرئ {بالغا أمرهُ} على أنّه حالٌ وخبرُ إنّ قوله تعالى: {قدْ جعل الله لِكُلّ شيء قدْرا} أي تقديرا وتوقيتا أو مقدارا وهُو بيانٌ لوجوبِ التوكلِ عليهِ تعالى، وتفويضُ الأمرِ إليهِ لأنّه إذا علم أنّ كلّ شيءٍ من الرزقِ وغيرِه لا يكونُ إلا بتقديرِه تعالى لا يبقى إلا التسليمُ للقدرِ والتوكلُ على الله تعالى. اهـ.